اخبار عالميةتكنولوجيارئيسيمستهلك

الأبراج الفاخرة تزداد طولاً بالرغم من تمايلها مع الريح

تتميز كل شقة في برج 432 بارك أفينيو في مدينة نيويورك، بإطلالة رائعة. لكن، لا يمكن لأيٍّ من المقيمين في البرج، النظر باتجاه الأسفل. و وفقاً للمهندس رافائيل فينولي، مصمم البرج -الذي يبلغ ارتفاعه 1396 قدماً، ويتألف من 85 طابقاً- فقد تمَّ تصميم المبنى بهذه الطريقة، لأنَّ أيَّ شخص سيتمكَّن من النظر مباشرة إلى الأرض سيشعر بالرعب. ولم يكن فينولي يشعر بقلق كبير على من يخافون بشكل خاص من المرتفعات، إذ كان يعلم ببساطة أنَّ مبنى الشقق الفخم الذي صمَّمه، ويتصدَّر بشكل غير رسمي مجموعة ناطحات السحاب الفخمة “بليونيرز رو” (Billionaires’ Row) في حي ميدتاون مانهاتن- سيتمايل بشدَّة في مهب الريح. وقال فينيولي خلال محاضرة ألقاها في الوقت الذي كانت فيه ناطحة السحاب هذه قيد الإنشاء: “إذا رأيت الواجهة؛ فلن تصاب بنوبة قلبية واحدة، بل بنوبتين اثنتين، لأنَّ الأشياء تتحرَّك فعلاً.. لكن لا تخبروا المستأجرين”.

اكتشف المستأجرون ذلك بأنفسهم. ففي برج 432 بارك؛ غالباً ما تتمايل الثريات مع المبنى، ويمكن سماع أصوات صرير في الليالي العاصفة. ويتمُّ إيقاف المصاعد عند وجود رياح عاتية، لأنَّ كابلاتها تهتز بشدة، وتتحول إلى مصدر خطر. وقبل عيد العمال الأمريكي مباشرة؛ كان عليهم إخلاء المبنى بالكامل لمدَّة يومين تقريباً أثناء حملة الإصلاحات المكثَّفة للأنظمة الكهربائية في المبنى. وهذا لا يشبه بالضبط ما اعتقد سكان المبنى بأنَّهم سيحصلون عليه مقابل استثماراتهم التي تبلغ أكثر من 20 مليون دولار. (فالصوت الذي تسمعه بالقرب من أذنيك، يماثل أصغر آلة ’ستراديفاريوس’ موسيقية في العالم).

نخبة ناطحات السحاب

لا يحتاج سكان نيويورك، ولا الزوار، إلى القلق من احتمال سقوط مبنى “432 بارك”، أو البنايات المشابهة له، والمصنوعة من الخرسانة والصلب. فالشركات التي صمَّمت وقامت بهندسة المباني، وكلها مؤهلة لتكوِّن أبراجاً “شاهقة الارتفاع” لا تقل عن 300 متر (ما يعادل 984 قدماً)، تعتبر كلها شركات عالمية رائدة في هذا المجال. وكان عليها الالتزام بالمعايير الخاصة بالمدينة والولاية، والمعايير الدولية التي تضمن بقاء نخبة ناطحات السحاب في العالم صامدة بالشكل صحيح. و بما أنَّهم يستطيعون تلبية متطلَّبات السلامة هذه؛ فإنَّ للمطوِّرين سلطة تقديرية واسعة حول المقدار الذي يمكن أن تتحرَّك به مبانيهم. ويعتبر التمايل مسألة شخصية، تتعلَّق بحساسية الحركة، والراحة ووجهة النظر الذاتية.

الأهم من ذلك للبقية منا، أنَّه بالنسبة إلى كل جيل من البنايات شاهقة الارتفاع، يمثِّل الأمر ساحة اختبار للجيل التالي، كما تقول كيت آشر، مؤلِّفة كتاب: “المرتفعات: تشريح ناطحة السحاب” (The Heights: Anatomy of a Skyscraper)، وأستاذة التنمية الحضرية في كلية كولومبيا للدراسات العليا للهندسة المعمارية والتخطيط والحفظ. وتوضّح آشر: “هذه المباني، بالنظر إلى حجمها فقط؛ لا يمكنك اختبارها في المعمل”. وأضافت: “عليك وضعها في الميدان، وستعمل بشكل مختلف”.

على الرغم من أنَّ هذا لا يعني الشعور بالاسترخاء بالكامل، إلا أنَّ التطورات في علوم المواد الخام وتكنولوجيا البناء، بالإضافة إلى الخبرة، بدأت بالمساعدة على رفع مستويات الراحة اليومية للسكان، جنباً إلى جنب مع زيادة أطوال المباني. ويعمل الخبراء باستمرار على تحسين الأشكال الهيكلية والكتل والأوزان المثالية، بالإضافة إلى مميزات أخرى غير معروفة بشكل أكبر، مثل الآلات متعددة الأنماط، والمعروفة باسم “مخمدات الكتلة المضبوطة”، التي تمَّ تصميمها للحدِّ من تأثير تأرجح المبنى.

معايير قياسية

بالنسبة إلى البقية منا، فمن إغراء الأمر أنْ تتجاهل تلك المباني، ويتمُّ تصنيفها ببساطة على اعتبار أنَّها مجرد شيء رائع أو مزعج -بحسب ذوقك- لأنَّ مجموعة الشركات القائمة على المباني شاهقة الارتفاع في حي بليونيرز رو، لا تؤثِّر بدرجة كبيرة في أزمة الإسكان ميسورة التكلفة في نيويورك.

لكن برغم ذلك؛ و مع ظهور المباني شاهقة الارتفاع في كل أنحاء العالم، وبزيادة ملحوظة، بما في ذلك المباني المتطورة متعددة الاستخدامات؛ من المحتمل تدارك الدروس المستفادة من نسبة الـ1% التي تعاني من الدوار في أماكن أخرى أيضاً. وتقارن آشر، تلك العملية بالطريقة التي مرَّت بها بعض التطورات في صناعة السيارات، مثل شاشات العرض الرأسية، وتنبيهات مغادرة الممرات، التي شقَّت طريقها من سيارات الليموزين لدى شركة “مرسيدس” إلى مركبات “تويوتا“. وقالت آشر: “هناك قطع تعمل عندما يجرب الأشخاص أشياء جديدة، وهناك قطع أخرى لا تقوم بذلك”. وأضافت: “الجيل القادم يأخذ هذه الأشياء، ومن ثمَّ تتحوّل إلى معايير قياسية”.

بدأ التاريخ الحديث للمباني شاهقة الارتفاع عام 1931، مع مبنى “إمباير ستيت”، الذي كان أطول مبنى في العالم حينها بارتفاع يبلغ 1247 قدماً، وافتُتح بعد عام تقريباً من بنائه. وبمرور الوقت، أصبحت عظمة الفن الزخرفي للمبنى رمزاً للبراعة الأمريكية. وفي السبعينيات من القرن الماضي؛ احتل برجا مركز التجارة العالمي عناوين الصحف، تلاهما برج “سيرز تاور” في شيكاغو الذي يبلغ ارتفاعه 1450 قدماً (وتحوَّل اسمه الآن إلى ويليس تاور) بعد ذلك بعامين. وفي شيكاغو، ساعد القيام بتحليلات بدائية لأنفاق الرياح، المهندسين على التصدي للتسريبات، لكنَّ العمل البنيوي اعتمد إلى حدٍّ ما على الحدس.

حركة الرياح

ما لم يستطع المعماريون وضع حساب له حتى الآن، هو دوامات الرياح. فعندما يفكر الناس في اصطدام الرياح بناطحة سحاب، فإنَّهم يفكرون في ارتطامها بالمبنى وجهاً لوجه. ولكن غالباً ما تحدث حركة ملحوظة عند الارتفاعات القصوى بسبب تحرُّك الرياح حول جوانب المبنى. ويشبه هذا الأمر وجود صخرة في مجرى مائي سريع الحركة، وخلف تلك الصخرة مباشرة يوجد فضاء سلبي، وفيه الماء من خلال دوامات تحوم حوله. وتعمل الرياح بالطريقة ذاتها تقريباً في الارتفاعات الشاهقة، مما يؤدي إلى دفع وسحب المباني من كل جانب، وذلك يجعلها تتحرَّك برفرفة.

تحسَّنت قدرة المهندسين المعماريين على تخفيف تأثير هذه الدوامات بشكل كبير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع تقدُّم نماذج أنفاق الرياح. وبعد الوصول إلى هذه المرحلة؛ استطاعت أبراج “بتروناس تاورز” في كوالالمبور التفوق على “برج سيرز” في الارتفاع، مع اقتراب “برج جينماو” في شنغهاي من المستوى ذاته. واعتمدت هذه المشروعات إلى حدٍّ كبير على المعماريين والمهندسين الأمريكيين، لكنَّهم كانوا يتدرَّبون في كثير من الأحيان في موقع العمل. ويقول أدريان سميث، الشريك السابق في شركة الهندسة المعمارية “سكيدمور، أوينغز آند ميريل” (Skidmore, Owings & Merrill)، الذي صمَّم أيضاً “برج سيرز”: “كان أول مبنى شاهق الطول في مسيرتي هو برج جينماو”. وأضاف: “أدركت بسرعة أنَّه لم يكن هناك الكثير من التاريخ الهندسي حول المباني شاهقة الارتفاع”.

وعندما صُمِّم برج يبلغ ارتفاعه 2000 قدم في شيكاغو، الذي تمَّ إحباط مشروعه بسبب مشكلات في التمويل، اكتشف فريق العمل في شركة “سكيدمور، أوينغز آند ميريل” طريقة لتقليل القوة التي تضرب المبنى بنسبة 25% تقريباً، وذلك من خلال تقليص حجم الواجهة بالتركيز على جوهر المبنى فقط على ارتفاعات مختلفة، مثلما يحدث في كعكة الزفاف، مع وجود فجوات بين الطوابق، إذ يكون بمقدورهم توزيع معظم قوة دوامات الرياح. وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ عندما كان سميث وفريقه يقومون ببناء برج يعدُّ حالياً الأطول في العالم، وهو “برج خليفة” في دبي، الذي يبلغ ارتفاعه 2716.5 قدم، كان لديهم بعض الأدوات الجديدة. ويقول سميث، إنَّ التقنيتين الأكثر الأهمية في هذا المشروع، واللتين أرستا الأساس لبناء برج شاهق الارتفاع أقل عرضاً، هما: النمذجة الحاسوبية، وتطور المواد الخام البنيوية.

تجربة برج خليفة

لا تعدُّ الخرسانة الجزء الأكثر جاذبية في تصميم المبنى، ولكن بعد تطبيق سلسلة بطيئة ومنسَّقة من التعديلات على تركيبتها المادية؛ سمح ذلك للمباني بأن تصبح أطول وأنحف بكثير خلال العقدين الماضيين. ويقول ليونارد جوزيف، مدير شركة الهندسة الإنشائية “ثورنتون توماسيتي” (Thornton Tomasetti): “الشيء الرائع في الخرسانة هو أنَّه إذا زادت قوتها؛ فإنَّ المادة الناتجة تكون أيضاً أكثر صلابة”. لكن على النقيض من ذلك؛ يظل الصلب، وهو ما يستخدمه مبنى إمباير ستيت، على درجة الصلابة ذاتها دائماً، مما يعني أنَّك ستحتاج إلى استخدام الكثير منه كلما زاد ارتفاع البرج. ويضيف جوزيف: “لذا بالنسبة إلى استخدام الصلب في المباني شاهقة الارتفاع؛ إذا كنت بحاجة إلى مزيد من الصلابة أكثر من القوة وحدها، ستضطر إلى إنفاق أموال ومواد إضافية كبيرة للحصول على تلك الصلابة فقط”.

هناك مكوِّن آخر للابتكار الخرساني، وهو الكيفية التي يمكن بها لخلَّاطات الضخ إطلاق المادة الخام قبل وضعها في الأنبوب. وأثناء العمل على إنشاء “برج خليفة”، كان على طواقم العمل ضخ الخرسانة لأعلى حوالي 2000 قدم، وكانت حدود المضخات تضع حداً أعلى على هيكل المبنى. لكن الآن، أدت التعديلات التي أُدخلت على تركيبة المادة والتحسينات في الضخِّ إلى إمكانية إطلاق الخرسانة على ارتفاع يزيد على 3000 قدم. ويقول سميث: “توجد كل هذه المشكلات التقنية التي يتمُّ تحديها باستمرار”. وأضاف: “بمجرد أن تصل إلى حلٍّ، تقول: حسناً، هل يمكننا أن نصل إلى ارتفاع أكبر؟ “وبالمثل؛ بلغ الحد الأقصى لمصاعد المبنى الموجود في دبي 123 طابقاً قبل عقد من الزمن، بسبب القيود المفروضة على قوة كابلات المصاعد. لكن الكابلات المصنوعة من ألياف الكربون، يمكنها الآن أن تسمح للمصاعد بالانتقال لمسافة 160 طابقاً.

برج "111 وست" في الشارع رقم 57 في مدينة نيويورك
برج “111 وست” في الشارع رقم 57 في مدينة نيويوركالمصدر: ALAMY

على خطى التكنولوجيا

يقول المهندس المعماري الرئيسي لمبنى “432 بارك”، ومعظم المباني الفخمة المعاصرة الأخرى في نيويورك، إنَّ مشروعاته تشكَّلت بشكل جوهري من خلال تتبُّع وتيرة التكنولوجيا. ويوضِّح سلفيان ماركوس، مدير العقارات وهياكل المباني في شركة “دبليو إس بي” (WSP) الهندسية الأمر بقوله: “في عام 1980، عندما أنشأت فندق بالاس في شارع ماديسون، أنتجنا أقوى نوع خرسانة على الإطلاق في مدينة نيويورك”. وأضاف: “ربما عادل ذلك 6000 رطل لكل بوصة مربعة. اليوم نستخدم الخرسانة بما يعادل 15 إلى 16 ألف رطل لكل بوصة مربعة”.

كان البرجان التوءمان، اللذان يعدَّان نحيفين للغاية بالنسبة إلى عصرهما، أكثر ارتفاعاً بمقدار 9.5 أضعاف مقارنة بعرضهما. وتعمل شركة “ماركوس” في برج “111 وست” في الشارع رقم 57، الذي سيتمُّ الانتهاء منه هذا العام بمعدل عرض إلى ارتفاع يبلغ 24:1، مما يجعله الأنحف حول العالم. وقامت شركته أيضاً بتصميم برج “سنترال بارك تاور”، وهو حالياً أطول مبنى سكني في العالم بارتفاع 1550 قدماً، وصمَّمته شركة “سميث” الجديدة، التي تحمل اسم “أدريان سميث + جوردون غيل أركيتكتشر” (Adrian Smith + Gordon Gill Architecture).

وفقاً لتقرير صادر عن مجلس المباني الشاهقة والمساكن الحضرية؛ وهي منظمة غير ربحية تموِّلها الصناعة، فقد شهد العقدان الماضيان انتشاراً مدوياً للمباني الشاهقة. وفي الفترة بين 1991 إلى 2001، شُيِّد ما متوسطه ​​12 من المباني التي يزيد ارتفاع الواحد منها على 200 متر حول العالم كل عام. ومن عام 2011 إلى 2021، بلغ المتوسط ​​السنوي نحو 112. كما كثرت أيضاً المباني فارهة الطول، أو الـ”سوبر تولز” (Supertalls). وزاد متوسط ​​ارتفاع أطول 100 مبنى في العالم بنسبة 41% منذ عام 2001، ليصعد بذلك من 284 متراً إلى 399. والعديد من هذه البنايات لا تقتصر على منازل الأثرياء وحسب؛ بل تضمُّ أيضاً مبان مكتبية، وفنادق، ومراكز تسوق.

برج جدة تاور في مدينة جدة
برج جدة تاور في مدينة جدةالمصدر: ALAMY

برج جدة.. الأطول مستقبلاً

لا يمكن فعل الكثير من الأشياء للتخفيف من حدَّة الانزعاج الموجود حالياً في برج “432 بارك”. لكنَّ سميث، الذي صمم أيضاً المبنى الذي سيكون الأطول حول العالم في المستقبل -وهو برج “جدة تاور” الذي يبلغ ارتفاعه 3280 قدماً (أي ما يعادل كيلومتراً واحداً) في المملكة العربية السعودية- يقول، إنَّ بعض الدروس المستفادة من هذه المشاريع ستترجم إلى مبانٍ أطول بكثير مع ذلك.

يضيف سميث: “ستكون تكنولوجيا المواد الخام أفضل بكثير مما هي عليه الآن”، كما يدرس طرقاً لحساب الهواء منخفض الأكسجين في الطوابق العليا من مبنى يبلغ ارتفاعه ميلاً.

هذه الأمور المجهولة، مثل تأثيرات ذلك على صحة الإنسان، تستحق التجربة، ويختتم سميث: “عندما تقوم بتصميم أطول مبنى في العالم، يجب أن تكون هناك توقُّعات بأنَّك ستكتشف أنَّك لا تعرف كل شيء”… لكنْ لا تخبر المستأجرين فقط.

  • بلومبيرغ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى